رغم ما تمتلكه من ثروات باطنية وزراعية هائلة، ظلت بعض المحافظات السورية تُصنّف على أنها “نامية”، وهو وصف يحمل في طياته تحقيرًا أكثر مما يعكس واقعها الحقيقي ، ما حوّلها من خزّان اقتصادي للبلاد إلى بؤر للفقر والبطالة والهجرة.

أصول التسمية: “نامية” أم مُهمّشة؟
مصطلح “المحافظات النامية” هو تعبير بيروقراطي استُخدم لتبرير الإهمال الرسمي لمناطق الشرق والشمال الشرقي السوري. وهو توصيف يُخفي خلفه سياسة طويلة الأمد من التهميش المتعمد، عبر حرمان هذه المناطق من التنمية والخدمات وفرص التعليم والتوظيف، رغم مساهمتها الكبرى في الاقتصاد الوطني.
الثروات المنهوبة والتنمية الغائبة
تمتلك هذه المحافظات أكثر من 70% من موارد النفط والغاز السورية، فضلًا عن مساحات زراعية شاسعة من القمح والشعير والقطن.
لكن المفارقة أن 58% من فقراء سوريا، خاصة من يعيشون الفقر العميق، يقطنون هذه المناطق.
البنية التحتية فيها متهالكة، والخدمات شبه معدومة، فيما يتم نقل النفط إلى مصافي غرب البلاد دون أي استثمار محلي حقيقي يعود بالنفع على السكان.



التوظيف: الإقصاء بدل التمكين
تم استبعاد أبناء هذه المناطق من الوظائف في قطاع النفط، في حين جرى جلب موظفين من الساحل السوري لضمان “الولاء السياسي”.
ارتفعت معدلات البطالة إلى مستويات قياسية، ما دفع آلاف الشباب إلى الهجرة الداخلية أو الخارجية، بحثًا عن لقمة العيش في بلد يغرق في الفساد والمحسوبيات.
التلوث الصحي: النفط يقتل السكان
في ظل غياب أي رقابة بيئية، تحولت مناطق استخراج النفط إلى بؤر تلوث قاتلة، نتيجة حرق الغاز المرافق وتسرّب المواد السامة مثل أول وثاني أكسيد الكربون وأكاسيد النيتروجين.
انتشرت الأمراض المزمنة، وعلى رأسها السرطان، دون أي تدخل حكومي حقيقي للحد من الكارثة أو تحسين الخدمات الصحية.

التعليم: فرص محدودة وإهمال مزمن
حتى بداية الألفية، لم يكن هناك أي جامعة في هذه المحافظات باستثناء دير الزور.
وعندما أُنشئت جامعات لاحقًا في الحسكة والرقة، ظلت محدودة التخصصات وفقيرة التجهيز.
النتيجة: اضطر الكثير من الطلاب للسفر إلى دمشق أو حلب لتحصيل تعليم جامعي لائق، وسط ظروف اقتصادية صعبة.
الزراعة: سياسة تدمير مدروس
الزراعة كانت شريان الحياة لهذه المحافظات، لكنها تعرضت لسياسات تدمير ممنهجة خلال سنوات حكم الأسد الأب والابن.
رُفع الدعم عن المحروقات والأسمدة، ما جعل الإنتاج الزراعي خاسرًا.
ومع موجة الجفاف في 2008، لم تُقدّم الحكومة أي دعم يُذكر، بل زادت من العبء على الفلاحين، مما أدى إلى موجات نزوح جماعية نحو المدن أو الخارج.
البعد السياسي: التهميش كأداة سيطرة
وراء هذا التهميش بعد سياسي واضح: تغييب المناطق غير الموالية من مراكز القرار.
لم يكن الهدف فقط إضعافها اقتصاديًا، بل إقصاؤها من التأثير الوطني، عبر حرمانها من الوظائف، والتعليم، والتمثيل السياسي، وصولًا إلى تشويه صورتها في الإعلام الرسمي.
الأصالة والهوية في وجه الإقصاء
ورغم كل أشكال الظلم، ظل أبناء هذه المحافظات متمسكين بقيمهم الأصيلة من الكرم والنخوة ورفض الظلم.
يستقبلون الضيوف في بيوتهم، لا في الفنادق، ويُصرّون على هويتهم السورية الجامعة، رافضين مشاريع التفتيت والفرز العرقي والطائفي، ليبقوا النجمة الثالثة في راية السوريين.
ما سُمّي بالمحافظات “النامية” ليست كذلك لضعف فيها، بل لأن تهميشها كان خيارًا سياسيًا متعمدًا.
العدالة الحقيقية تستوجب إعادة النظر في هذا التاريخ، وردّ الاعتبار لأبناء هذه المناطق عبر تنمية حقيقية، ومشاركة سياسية عادلة، واستثمار في الإنسان قبل البنية.
فمن دونهم، لا يمكن الحديث عن سوريا موحدة أو عادلة.
مصادر
• تقارير الجهاز المركزي للإحصاء في سوريا (2004 – 2010)
• دراسة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP): الفقر في سوريا
• البنك الدولي: مؤشرات الفقر والتنمية في سوريا
• مركز عمران للدراسات: أبحاث في التهميش الإقليمي
• تحقيقات صحفية وتقارير ميدانية عن التلوث في دير الزور والحسكة والرقة
رغم امتلاكها ثروات باطنية وزراعية هائلة، ظلّت بعض المحافظات السورية تُصنّف على أنها “نامية”، وهو وصف ينطوي على تحقير أكثر مما يعكس واقعها الحقيقي. الحقيقة أن هذه المناطق، مثل دير الزور والحسكة والرقة، عانت لعقود من تهميش متعمد وحرمان ممنهج من التنمية، ما حوّلها من خزّان اقتصادي للبلاد إلى بؤر للفقر والبطالة والهجرة.